تقنية "كريسبر".. طفرة ثورية في الهندسة الوراثية
أحدثت تقنية "كريسبر" الناجحة للتعديل الجيني تحولات واسعة النطاق في علم الأحياء، تُعَدّ الأكبر من نوعها منذ ابتكار تقنية تفاعل البوليميريز المتسلسل، ولكن تصاحِب إمكانياتها الهائلة الواعدة في المستقبَل مخاوف أخرى.
Nature (2015) doi:10.1038/522020a | Published online | English article
Illustration by Sébastien Thibault
قبل ثلاث سنوات، عثر بروس كونكلين على طريقة جعلته يغيِّر مسار مختبره. حاول كونكلين ـ عالم الوراثة في معاهد جلادستون في سان فرانسيسكو، بكاليفورنيا ـ أن يصل إلى تفسير لتأثير التغيرات في الحمض النووي على الأمراض البشرية المختلفة، ولكن أدواته كانت بطيئة. وعندما أجرى تجاربه على خلايا المرضى، كان صعبًا عليه أن يَعْلَم أيّ التسلسلات تحديدًا هو الذي يسبب المرض، وأيّها مجرد خلفية، لا معنى له. وكان تحوير الخلايا جينيًّا عملًا مكلفًا ومرهقًا، قال عنه: "كان مجرد تحويل جين واحد موضوعًا يستغرق الطالب فيه مجهود دراسة بحثية كاملة".
في عام 2012، قرأ كونكلين عن تقنية1 جديدة للهندسة الوراثية، نُشرت مؤخرًا، تُسمى تقنية "كريسبر" CRISPR، تتيح للباحثين تغيير الحمض النووي لأيّ كائن حي بسرعة فائقة، بما في ذلك البشر. وسرعان ما تخلَّى كونكلين عن أسلوبه السابق لنمذجة الأمراض، وتَبَنَّى الأسلوب الجديد. ويعكف مختبره حاليًّا بحماس كبير على تغيير الجينات المرتبطة بأعراض أمراض القلب المتنوعة. ووصف تأثير تقنية "كريسبر" قائلًا: "إنها تقلب كل شيء، رأسًا على عقب".
ليس هذا رأي كونكلين فحسب، بل يتفق معه عدد كبير من الباحثين والعلماء، فقد أحدثت تقنية "كريسبر" تحولات جوهرية في أبحاث الطب الحيوي. وبخلاف طرق التعديل الجيني الأخرى، تمتاز "كريسبر" بأنها رخيصة التكلفة، وسهلة الاستعمال، ولهذا.. اجتاحت مختبَرات العالم كالإعصار. ويأمل الباحثون في استخدام هذه التقنية لتعديل جينات البشر، بغرض القضاء على الأمراض، وإكساب النباتات قوة تحمُّل، والتخلص من مسبِّبات الأمراض، والكثير من الأهداف الأخرى. يقول جون شمينتي في هذا الصدد، وهو عالِم الوراثة في جامعة كورنيل في إيثاكا بنيويورك: "لقد شهدتُ تقنيّتين ثوريّتين منذ عملت في الهندسة الوراثية، هما "كريسبر"، وتفاعل البوليميريز المتسلسل"، حيث تؤثر تقنية "كريسبر" على العديد من علوم الحياة من عدة جوانب، وهي في ذلك تشبه تقنية تفاعل البوليميريز المتسلسل لتضخيم الجينات، التي أحدثت ثورة في الهندسة الوراثية، بعد التوصل إليها في عام 1985.
ورغم إمكانيات تقنية "كريسبر" الواعدة، يشعر العلماء بالقلق من إيقاع التطور السريع في هذا المجال، الذي لا يتمهل لبعض الوقت لمناقشة المخاوف الأخلاقية، وعوامل السلامة التي قد تطرأ خلال هذه التجارب. برزت هذه المشكلة بشكل صارخ في إبريل الماضي، عندما فوجئ الجميع بأخبار عن استخدام العلماء لتقنية "كريسبر" في هندسة الأجنة البشرية (انظر: Nature 520, 593–595; 2015). ولم تبقَ أيٌّ من الأجنة التي استخدموها حية، وفشلت الأبحاث في الوصول إلى ولادة ناجحة، ولكن التقرير2 أثار جدلًا أخلاقيًّا حادًّا حول مدى استخدام تقنية "كريسبر" في إجراء تغييرات وراثية في الجينوم البشري، وكيفية إجراء ذلك. ولا يقتصر الأمر على هذه المخاوف؛ فبعض العلماء يرغبون في إجراء المزيد من الدراسات حول احتمال أن يتسبب استخدام هذه التقنية في إنتاج تعديلات جينومية شاذة أو خطيرة، بينما يشعر آخرون بالقلق من تَسَبُّب الكائنات المعدَّلة وراثيًّا في إحداث اضطرابات أو انهيارات في الأنظمة البيئية كلها. يقول ستانلي كاي، عالِم أحياء النظم البيئية في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا: "يسهل استخدام المختبرات لهذه التقنية، فلا حاجة إلى معدات كثيفة أو باهظة، كما لا يحتاج الباحثون إلى سنوات طويلة من التدريب لإجراء التعديلات الوراثية". ويضيف قائلًا: "ينبغي أن نفكر مليًّا في طرق السيطرة والرقابة على استخدام هذه التقنية".
ثورة بحثية
استطاع علماء الأحياء تعديل الجينومات ـ لفترة طويلة ـ باستخدام الجزيئات. وقبل عشر سنوات خلت، كان العلماء سعداء للغاية بإنزيمات أسموها "نوكلييز أصابع الزنك"، وكانت تبشِّر بإمكانية القيام بهذه التعديلات بكفاءة ودقة، ولكن أصابع الزنك ـ التي تكلِّف 5,000 دولار، أو أكثر لطلبها ـ لم تُستخدم على نطاق واسع، حسب قول جيمز هابر، وهو عالِم الأحياء الجزيئية في جامعة برانديس في والثام، ماساتشوستس، بسبب ارتفاع تكلفتها، وصعوبة هندستها. أما تقنية "كريسبر"، فتعمل على نطاق مختلف، لأنها تعتمد على إنزيم يُسمى Cas9، يستخدم جزيئًا إرشاديًّا من الحمض النووي الريبي، بغرض استهداف الجزء المطلوب من الحمض النووي، ثم يعدل الحمض النووي، من أجل تفكيك الجينات، أو وضع التسلسلات المطلوبة. ويحتاج الباحثون إلى طلب جزء الحمض النووي الريبي فقط، أمّا بقية المكونات، فيمكن شراؤها بصورة جاهزة. وتبلغ التكلفة الإجمالية 30 دولارًا فقط. يقول هابر بشأن هذا: "فعليًّا أدى ذلك إلى تمكين أي شخص من استخدام هذه التقنية. إنها حقًا ثورة هائلة".
Publications: Scopus; Patents: The Lens; Funding: NIH RePORTER.
أدَّت تقنية "كريسبر" إلى سَحْب البساط من تحت إنزيم "نوكلييز أصابع الزنك"، وغيرها من أدوات التعديل الجيني (انظر الرسوم التوضيحية: "صعود تقنية كريسبر"). وبالنسبة إلى البعض، يعني ذلك التخلي عن تقنيات استغرقت سنوات طويلة، حتى تنضج وتكتمل. وفي هذا الصدد يقول بيل سكارنز، عالم الوراثة في معهد ويلكوم تراست سانجر، في هينكستون، بالمملكة المتحدة: "أشعر بخيبة الأمل، ولكني أشعر أيضًا بالحماس". قضى سكارنز أغلب حياته المهنية كباحث في استخدام تقنية التعديل الوراثي التي طُرحت في منتصف الثمانينات، وهي إدخال الحمض النووي في الخلايا الجذعية للأجنة، ثم استخدام هذه الخلايا في استيلاد فئران معدلة وراثيًّا. أصبحت هذه التقنية قاطرة العمل في المختبرات، ولكنها كانت تستهلك الكثير من الوقت وباهظة التكلفة. وبالمقارنة.. تستغرق تقنية "كريسبر" وقتًا قصيرًا، وقد بدأ سكارنز استخدام هذه الطريقة قبل عامين.
اعتاد الباحثون الاعتماد على كائنات حية نموذجية، مثل الفئران وذباب الفاكهة. ومن أسباب ذلك أنها الأنواع الوحيدة التي تتوفر لها أدوات صالحة للتعديل الجيني. والآن، جعلت تقنية "كريسبر" التعديل الجيني ممكنًا في العديد من الكائنات الحية. ففي إبريل الماضي، على سبيل المثال، أعلن الباحثون في معهد وايتهيد لأبحاث الطب الحيوي في كمبريدج، ماساتشوستس، استخدام تقنية "كريسبر" في دراسة فطرياتCandida albicans، وهي فطريات قاتلة، خاصة في الأفراد الذين يعانون من ضعف نظام المناعة، وكان من الصعب تعديلها جينيًّا في المختبر3. وتحتفظ جينيفر دودنا ـ رائدة تقنية "كريسبر" في جامعة كاليفورنيا، في مدينة بيركلي ـ بقائمة فيها كل الكائنات التي تم تعديلها بتقنية "كريسبر". وحتى الآن، تحتفظ دودنا بنحو 36 كائنًا في قائمتها، منها فطريات مسبِّبة للأمراض، تُسمى المثقبيات، والخمائر المستخدَمة في صنع الوقود الحيوي، غير أن التقدم السريع له عيوبه. يقول بو هوانج، عالم الفيزياء الحيوية، في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو: "الباحثون في عجلة من أمرهم، حتى إنهم لا يخصصون وقتًا كافيًا لتوصيف بعض المعايير الأساسية لهذا النظام. فهناك من يفكر من منظور يرى أنه طالما تعمل التقنية بكفاءة، فلسنا بحاجة إلى فهم كيفية عملها، أو أسبابها". وهذا يعني أن الباحثين ـ من حين إلى آخر ـ عليهم التعامل مع بعض العيوب، أو الأخطاء. ويبذل هوانج ومختبره الآن جهودًا شاقة على مدار شهرين، بغرض تطويع تقنية "كريسبر" للاستخدام في دراسات التصوير بالأشعة. ويعتقد أن النتائج كانت لتأتي مبكرًا، لو كنا نعلم الكثير حول كيفية تحسين تصميم الجزيئات الإرشادية للحمض النووي الريبي، وهي تفاصيل أساسية دقيقة، ومهمة للغاية.
وبوجه عام، يَعتبر الباحثون هذه الثغرات ثمنًا بسيطًا لتقنية ناجحة وفعالة، ولكن جينيفر دودنا بدأت تشعر بمخاوف جادة وخطيرة متعلقة بالسلامة. وبدأت مخاوفها أثناء اجتماع عُقد في عام 2014، عندما وجدت باحثًا حاصلًا على الدكتوراة يعرض مشروعه البحثي، الذي قام فيه بهندسة فيروس؛ من أجل نقل مكونات "كريسبر" إلى الفئران. واستنشقت الفئران الفيروس، مما أتاح لنظام "كريسبر" هندسة الطفرات، وإنشاء نموذج لسرطان الرئة في البشر4. شعرت دودنا برجفة، فأيّ خطأ بسيط في تصميم الحمض النووي الريبي الإرشادي قد يؤدي إلى تطوير فيروس معدل وراثيًّا يسبب سرطان الرئة للبشر أيضًا. تقول جينيفر: "يشعر المرء بخوف هائل عندما يتصور أن الطلاب سيتعاملون مع مثل هذه الفيروسات المعدَّلة. ويجدر بالباحثين إظهار التقدير لما يمكن لهذه التقنية أن تتسبب فيه".
وفي هذا الصدد.. يقول أندريا فينتورا ـ وهو باحث رئيس في علم السرطان، في مركز ميموريـال سلون كيتيرينج التذكاري للسرطان في نيويورك ـ إن مختبره قد درس كل اعتبارات السلامة، حيث تم تصميم التسلسلات الإرشادية، لكي تستهدف مناطق جينومية محددة فريدة خاصة بالفئران، وتم تعطيل الفيروس؛ حتى لا يستطيع التناسل، أو نَسْخ نفسه. واتفق على ضرورة توقُّع كل المخاطر، حتى الضئيلة منها، أو القليل احتمال حدوثها، قائلًا: "لم يتم تصميم الجزيئات الإرشادية لكي تلائم الجينوم البشري، ولكن لا يمكننا التيقن التام أبدًا. ورغم أنه مستبعَد إلى حد كبير، ولكن لا زلنا بحاجة إلى الاحتياط للأمر، وأخْذه في الاعتبار".
استئصال المرض
في العام الماضي، استخدم دانييل أنديرسن وزملاؤه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كمبريدج تقنية "كريسبر" في الفئران، بغرض تصحيح الطفرات المرتبطة بمرض أيضي يصيب البشر، يُسمى "تايروسينيميا" Tyrosinemia5. وكان ذلك أول استخدام لتقنية "كريسبر" لإصلاح طفرة مسبِّبة للمرض في حيوان بالغ، وخطوة مهمة لاستخدامها في العلاج الجيني في البشر.
غَدَت قدرة تقنية "كريسبر" على تسريع وتطور مجال العلاج الجيني مصدرًا للحماس العلمي في الدوائر العلمية، ودوائر المتخصصين في التكنولوجيا الحيوية. وكشفت دراسة أندرسون الخطوات والمراحل المنتظرة، إلى جانب تسليط الضوء على قدرة هذه التقنية، وإمكانياتها. وكان على الفريق ضخ كميات كبيرة من السوائل في الأوعية الدموية، من أجل إدخال إنزيم Cas9، وجزيء الحمض النووي الريبي الإرشادي في الكبد المستهدف، وهو أمر غير مُجْدٍ بصفة عامة في البشر. وصحَّحت التجارب الطفرة المسبِّبة للمرض في 0.4% من الخلايا، وهي نسبة غير كافية للتأثير على العديد من الأمراض.
وخلال العامين الماضيين، أقيمت شركات لتطوير العلاج الجيني القائم على تقنية "كريسبر". ويرى أندرسون وآخرون أن التجارب الإكلينيكية الأولى لمثل هذا العلاجات قد تصبح واقعًا في العام المقبل، أو خلال العامين المقبلين. وستكون هذه التجارب الأولية ـ على الأرجح ـ سيناريوهات، يمكن فيها حقن مكونات "كريسبر" مباشرة في الأنسجة، مثل الحَقْن في العين، أو نزع الخلايا من الجسم، وهندستها في المختبر، ثم إعادتها للجسم مرة أخرى. فعلى سبيل المثال.. من الممكن تصحيح الخلايا الجذعية التي تشكِّل الدم، لعلاج أعراض معينة، مثل أمراض فقر الدم المنجلي، أو الثلاسيميا β-thalassaemia. وثمة تحدٍّ أكبر، يتمثل في إدخال الإنزيم والحمض النووي الريبي الإرشادي في العديد من الأنسجة الأخرى. وبرغم ذلك.. يأمل الباحثون في استخدام هذه التقنية يومًا ما؛ لعلاج عدد أكبر من الأمراض الوراثية.
ويحذِّر عدد من العلماء من وجود إجراءات كثيرة يجب اتخاذها قبل استخدام تقنية "كريسبر" بسلامة وفعالية، حيث يحتاج العلماء إلى زيادة فعالية التعديل الجيني، والتأكد ـ في الوقت نفسه ـ من عدم إحداث أي تغييرات في مكان آخر في الجينوم، قد تؤدي إلى أضرار، أو عواقب وخيمة على الصحة. يقول هابر: "ستعمل هذه الإنزيمات في أماكن أخرى، بخلاف الأماكن التي تم تصميمها لكي تعمل فيها، وسيكون لذلك الكثير من الآثار والنتائج. فإذا كنتَ ستقوم باستبدال الجين المسبِّب لمرض فقر الدم المنجلي في إحدى الخلايا الجذعية لشخص ما، ستُطلَب منك الإجابة على السؤال التالي: "وماذا عن الأضرار الأخرى التي ربما أحدثتها في المواقع الأخرى من الجينوم؟"
يعكف كيث يونج ـ الذي يدرس التعديل الجيني في مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن ـ على تطوير طرق وأساليب؛ لتحديد نقاط الاختراق لجزيء Cas9 الإرشادي، البعيدة عن الخلايا المستهدفة. وقال إن عدد هذه الاختراقات يختلف من خلية إلى أخرى، ومن تسلسل جيني إلى آخر، وقد رصد مختبره ومختبرات أخرى المواقع البعيدة عن الخلايا المستهدفة، باحتمالات حدوث طفرات تتراوح ما بين 0.1%، وأكثر من 60%. ويضيف قائلًا إنه حتى الحوادث ذات الاحتمال المنخفض قد تكون خطيرة، إذا أدَّت إلى تسريع نمو الخلية، وقد تؤدي إلى السرطان.
في ظل كل هذه التساؤلات التي ظلت بلا إجابات، من الضروري السيطرة على التوقعات المنتظرة من تقنية "كريسبر"، حسب قول كاترين بوسلي، الرئيس التنفيذي لإديتاس، وهي شركة في كمبريدج، ماساتشوستس، متخصصة في العلاج الجيني باستخدام تقنية "كريسبر". كما أنها عالِمة مخضرمة في التسويق التجاري للتقنيات الجديدة، حيث تقول بصدد صعوبات عملها: "كانت المهمة الأصعب دومًا هي إقناع الآخرين بجدوى التقنية، ونجاح عملها. أما مع تقنية "كريسبر"، فالأمر على النقيض تمامًا، إذ هناك قدر كبير من الإثارة والدعم، ولهذا.. يجب أن نكون واقعيين بشأن ما يتطلبه الأمر لتحقيق أهدافنا".
تقنية "كريسبر" في المزرعة
بينما يحاول أندرسون وآخرون تعديل الحمض النووي في الخلايا البشرية، يركِّز آخرون في تجاربهم على المحاصيل والماشية. وقبل ظهور تقنيات التعديل الجيني، كان التعديل الجيني بصفة عامة يتم من خلال زرع جين في الجينوم في أماكن عشوائية، بجانب التسلسلات الجينومية من البكتيريا، أو الفيروسات، أو الأجناس الأخرى التي تحفِّز التعبير الجيني. ولم تكن تلك العملية فعالة لدرجة أن تصبح المادة المفضلة التي تَلُوكها ألسنة النقاد، الذين يعترضون على خلط الحمض النووي من عدة أجناس مختلفة، أو يساورهم القلق في أن الزرع الجيني قد يؤدي إلى اضطرابات في الجينات الأخرى. والأدهى من ذلك.. أن الموافقة على استخدام المحاصيل المعدلة وراثيًّا عملية شديدة التعقيد، ومكلفة للغاية، حتى إن أغلب المحاصيل التي تم تعديلها وراثيًّا هي محاصيل كثيفة الاستهلاك، مثل الذرة، وفول الصويا.
Illustration by Sébastien Thibault
مع تقنية "كريسبر".. تغيَّر الموقف تمامًا، فالسهولة والتكلفة المنخفضة جعلتا تعديل الجينوم خيارًا مجديًا في المحاصيل الصغيرة المتخصصة، وكذلك في الحيوانات. وفي السنوات القليلة الماضية، استخدم الباحثون هذه الطريقة في هندسة الخنازير الصغيرة، وفي صنع فصائل من القمح والأرز مقاوِمة للأمراض. وأحرز الباحثون كذلك تقدُّمًا في هندسة ماشية بلا قرون، وسلالات ماعز مقاوِمة للأمراض، وبرتقال حلو غني بالفيتامينات. وتتوقع دودنا أن تتسع قائمتها للكائنات المعدَّلة بتقنية "كريسبر"؛ لتشمل المزيد من الكائنات الأخرى. وتقول في هذا الصدد: "هناك فرصة رائعة لدراسة إجراء التجارب، أو هندسة المسارات في النباتات التي لا تُعَدّ مهمة من الناحية التجارية، ولكنها مثيرة ومهمة من المنظور البحثي، أو في حدائق الخضراوات المنزلية".
تؤدي قدرة تقنية "كريسبر" على تعديل تسلسلات الحمض النووي الحالية بدقة إلى إنشاء طفرات وراثية أكثر دقة، وفي الوقت نفسه تجعل من الصعب على الجهات التشريعية والمزارعين تحديد الكائن المعدَّل وراثيًّا بعد إطلاقه في البيئة. وفي هذا الصدد تقول جينيفر كوزما، التي تدرس سياسات العلوم في جامعة ولاية كارولينا الشمالية في رولي: "مع التعديل الجيني، لم تعد هناك أي قدرة فعلية على تتبُّع المنتجات المهندسة وراثيًّا، وسيغدو من الصعب للغاية تقرير ما إذا كان التعديل الوراثي نتج عن طفرة تقليدية، أم عن طريق الهندسة الوراثية". إنّ ذلك يدق جرسَ الإنذار لمُعَارِضي ومنتقدي المحاصيل المعدلة وراثيًّا، ويطرح أسئلة عسيرة على الدول التي تحاول إيجاد مخرج تشريعي لتقنين النباتات والحيوانات المعدلة وراثيًّا، حيث إنه في الولايات المتحدة لم توافق إدارة الأغذية والأدوية بعد على أي حيوان معدَّل وراثيًّا للاستهلاك البشري، كما لم تعلن بعد رؤيتها للتعامل مع الحيوانات المعدلة وراثيًّا.
في ظل القواعد الحالية، لا تتطلب كل المحاصيل التي تم إنتاجها بتعديل الجينوم التنظيمَ أو التقنينَ من وزارة الزراعة الأمريكية (انظر:Nature 500, 389-390; 2013)، ولكن وزارة الزراعة بدأت في مايو الماضي في جمْع المقترحات حول كيفية تحسين تشريعات المحاصيل المعدلة وراثيًّا، وهي الخطوة التي اعتبرها الكثيرون مؤشرًا على أن الوزارة تعيد تقييم قواعدها، في ضوء التقنيات الجديدة، مثل "كريسبر". تقول جانيفر كوزما بشأن هذا: "لقد تشققت النافذة المعتمة قليلًا. وبرغم أننا لم نر كل ما وراءها بعد، إلا أن حقيقة أنها تشققت أمرٌ مثير للغاية".
هندسة الأنظمة البيئية
بخلاف حيوانات المزرعة، يدرس الباحثون ضرورة استخدام تقنية "كريسبر" على الكائنات الحية البرية، وكيفية ذلك. وانْصَبّ جزء كبير من الاهتمام على طريقة "الحث الجيني"، التي تعمل على نَشْر جين مُعدَّل في نوع أو جنس من الكائنات الحية بشكل سريع، في مجتمع من هذه الكائنات. ولا زالت هذه الجهود في بداياتها، ولكن من الممكن استخدام هذه الطريقة في استئصال البعوض، أو القراد المسبِّب للمرض، والتخلص من النباتات الاستعمارية، أو القضاء على مقاوَمة المبيدات في حشائش رجل الأوز، التي تُنْهِك مقاومتُها بعض المزارعين الأمريكيين.
يستغرق التغيير الجيني في كائن حي ـ عادةً ـ وقتًا طويلًا للانتشار في فئة أو مجتمع من الكائنات الحية، لأن الطفرة التي أجريت على إحدى الصبغتين اللتين تشكلان الزوج الصبغي تورث فقط في نصف النسل، ولكن تقنية الحث الجيني تتيح للطفرة الجينية التي تم إجراؤها باستخدام تقنية "كريسبر" على إحدى الصبغتين نَسْخ نفسها للذكر، أو الأنثى الأخرى في كل جيل، وبذلك يرث كل النسل الناتج عن التزاوج بينهما هذه الطفرة. وهذا يعني أنه سوف يَسْرِي في مجموعة الكائنات المستهدفة بسرعة مضاعفة لسرعة المعدل العادي (انظر الرسم التوضيحي "الحث الجيني")، حيث إن الطفرة الجينية في بعوضة ما يمكنها أن تنتشر من خلال عدد كبير من البعوض خلال الموسم الواحد. وإذا أدت هذه الطفرة إلى تقليل نسل البعوضة، فإن ذلك سيؤدي إلى انقراض أو إبادة فصيلة البعوض من الوجود، وبالتبعية إبادة طفيليات الملاريا التي تحملها.
Publications: Scopus; Patents: The Lens; Funding: NIH RePORTER.
هذا.. وهناك كثير من الباحثين قلقون من تغيير الخصائص الوراثية في فئة أو جنس كامل، أو القضاء عليه تمامًا، إذ يؤدي ذلك إلى آثار جوهرية وغير معروفة على المنظومة البيئة والتوازن البيئي. فقد يعني ذلك ـ على سبيل المثال ـ ظهور فئة أخرى من الآفات، كما قد يؤثر ذلك على الجوارح، أو الحيوانات المفترسة في أعلى السلسلة الغذائية. ويدرك الباحثون أن الحمض النووي الريبي الإرشادي قد يتغير بمرور الوقت، حتى إنه قد يستهدف جزءًا مختلفًا من الجينوم. وهنا، سيكون للتحور التأثير السريع نفسه في الانتشار بين أعداد فصيل معين من الكائنات الحية، وسيؤدي إلى نتائج أو آثار لا يمكن توقُّعها.
يقول جورج تشيرش، وهو مهندس أحيائي في كلية هارفارد للطب في بوسطن: "ينبغي أن يكون لذلك الإجراء مردود مرتفع للغاية، نظرًا إلى انتفاء القدرة على التراجع عنه بعد إطلاقه، بجانب العواقب غير المقصودة، أو التي يصعب التنبؤ بها على الأجناس الأخرى". في إبريل 2014، كتب تشيرش وفريق من العلماء وخبراء السياسة تعليقًا في دورية "ساينس"6 ، مع تحذير الباحثين بشأن المخاطر، واقتراح وسائل الحماية من الإطلاق العرضي للجينات التجريبية المستحثة.
في ذلك الوقت، كانت تقنية الحث الجيني تبدو احتمالًا ضعيفًا، ولكن في أقل من عام بعد ذلك، أعلن عالِم الأحياء التطوري إيثان باير ـ من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو ـ وتلميذه فالنتينو جانتز أنهما صمَّما تقنية "الحث الجيني" في ذباب الفاكهة7. حيث استخدم باير وجانز ثلاث طبقات من الصناديق لاحتواء الذباب، وطبقا في المختبر إجراءات السلامة التي تستخدم عادة مع البعوض الناقل لمرض الملاريا. ولكنهما لم يتبعا جميع الإرشادات التي يحث عليها كاتبو التعليق السابق ذكره، مثل ابتكار طريقة لعكس التغيير المُهندَّس. يقول باير إنهما كانا ينفذان تجارب أولية لإثبات المبدأ، وأرادوا معرفة ما إذا كانت الطريقة ستنجح أولًا، قبل أن ينتقلوا بها إلى مستوى أكثر صعوبة.
كان ذلك تحذيرًا واضحًا بالنسبة إلى تشيرش والآخرين، بأنّ إخضاع التعديل الجيني ـ من خلال تقنية "كريسبر" ـ إلى المداولات الديموقراطية ستكون له نتائج غير متوقعة، وغير مطلوبة. يقول كينيث أوي، العالِم السياسي في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، والكاتب الرئيس لتعليق دورية "ساينس": "من الضروري أن تتخذ الجهات التنظيمية الوطنية والمؤسسات الدولية التدابير الضرورية إزاء ذلك، فنحن بحاجة إلى المزيد من الجهود". وقد شكَّل المجلس الوطني الأمريكي للبحوث لجنة لمناقشة تجارب الحث الجيني، كما بدأت تُجرى مناقشات أخرى رفيعة المستوى، ولكن كينيث قلق بشأن تطور هذا العلم بسرعة كبيرة، وأن إصدار القوانين التشريعية قد يتأخر لما بعد تنفيذ تجربة كبيرة، لإطلاق الكائنات في البيئة بالفعل باستخدام الحث الجيني.
إن "القضية ليست أبيض وأسود"، حسب قول ميكي يوبانكس، عالِم البيئة المتخصص في الحشرات في جامعة تكساس إيه آند إم، في كوليج ستيشن، الذي يوضح أن فكرة الحث الجيني صدمته، وأزعجته في البداية، ويقول عنها: "كان الذعر هو ردّ فعلي الأول، حيث قلت: "يا إلهي هذا أمر فظيع، ومخيف للغاية"، ولكن عندما تفكر مليَّا في الأمر، وتحاول مقارنة تغييراته البيئية بتلك التي أجريناها بالفعل، ونواصل القيام بها؛ سيبدو الأمر وكأنه مجرد نقطة في بحر".
بعض الباحثين يرون أن هناك دروسًا يمكن أن تستفيد بها تقنية "كريسبر". تلك الدروس من تجارب التقنيات الأخرى الجديدة، التي أثارت شعورًا كبيرًا بالسعادة، ثم القلق، فالإحباط، عندما بدأت المتاعب تطل برؤوسها. كان عالِم الجينات الطبي جيمز ويلسون ـ من جامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا ـ في قلب المتحمسين بشأن العلاج الجيني في التسعينات، حتى شهد سقوط هذه التقنية عندما حدث خطأ في تجربة إكلينيكية؛ أدَّى إلى مصرع شاب؛ فتدهورت الأمور، وخرجت عن السيطرة، ولم تبدأ في التحسُّن إلا مؤخرًا. ولا يزال مجال تقنية "كريسبر" واعدًا، على حد قول ويلسون، وسيكون أمامنا سنوات قبل أن نستوعب إمكانياتها. ويضيف قائلًا: "لا زلنا في مرحلة الاستكشاف. وتحتاج هذه الأفكار إلى فترة للنضج والتطور". ويشعر ويلسون مرة أخرى بالحماس مع "كريسبر"، ويقول إنه كان متخوفًا من كل المزايا التي ترددت حولها، حتى بدأ مختبره يجرب الطريقة. يقول ويسلون: "سيكون لهذه التقنية دور كبير في مداواة الأمراض التي تصيب البشر. إنها تقنية مذهلة حقًّا".
References
- Science 337, 816–821 (2012).et al.
- Protein Cell 6, 363–372 (2015).et al.
- Sci. Adv. 1, e1500248 (2015)., &
- Nature 516, 423–427 (2014).et al.
- Nature Biotechnol. 32, 551–553 (2014).et al.
- Science 345, 626–628 (2014).et al.
- Science 348, 442–444 (2015).&
- J. Bacteriol. 169, 5429–5433 (1987)., , , &
- Mol. Microbiol. 17, 85–93 (1995)., , &
- Science 315, 1709–1712 (2007).et al.
- Science 339, 819–823 (2013).et al.
- Science 339, 823–826 (2013).et al.
- eLife 2, e00471 (2013).et al.
- http://arabicedition.nature.com/journal/2015/07/522020a?WT.mc_id=NAE_SocialMedia15
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.